قصف دمشق- رسائل إسرائيلية، تحديات سورية، وتأثيرات إقليمية

المؤلف: وائل علوان08.24.2025
قصف دمشق- رسائل إسرائيلية، تحديات سورية، وتأثيرات إقليمية

على عكس الممارسات الإسرائيلية السابقة التي اقتصرت على قصف الأهداف العسكرية الميدانية في الأراضي السورية، كالأرتال والمخازن والرادارات وحتى المدرعات، أقدم سلاح الجو الإسرائيلي على خطوة غير مسبوقة، وهي استهداف مبنى قيادة الأركان العامة في قلب العاصمة دمشق. هذا العمل، الذي وقع في منتصف يوم 16 يوليو/ تموز 2025، خلف بصمة سياسية عميقة تتجاوز بكثير حجم الدمار والتخريب الذي ألحقه القصف بالبناء الشامخ المطل على ساحة الأمويين، القلب النابض لدمشق.

إن هذا القصف الإسرائيلي الذي استهدف رمزًا من رموز السيادة السورية، يمثل تطورًا بالغ الخطورة في طبيعة التدخل الإسرائيلي في الشأن السوري. فبالإضافة إلى ما أعلنه التلفزيون السوري نقلاً عن مصادر حكومية عن سقوط العشرات من الشهداء من قوات الأمن والجيش جراء هذا الاعتداء الغاشم، فإن الرسالة الواضحة التي تلقتها الحكومة السورية هي انتهاك صارخ وتعدٍ سافر على سيادتها، في ظل إدراكها التام لعجزها عن الرد أو المواجهة.

في لحظة حرجة، أدركت الحكومة السورية حجم المأزق الذي وضعت فيه نتيجة هذا التدخل الإسرائيلي السافر، وتيقنت من أن إسرائيل قد تتمادى في غيها، وأن دمشق بحاجة ماسة إلى التهدئة وتخفيف التصعيد، حيث لن تجديها نفعًا أي مساندة خارجية من الحلفاء أو الأصدقاء في ظل هذا الوضع المتأزم.

وكما كان متوقعًا، لم تُعر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أي اهتمام لمواقف دول المنطقة والأمم المتحدة التي استنكرت تدخلاته العسكرية وقصفه المتكرر لمناطق درعا والسويداء. بل وجد في هذا التصعيد فرصة سانحة لإقناع القضاء بضرورة تأجيل المحاكمات التي تلاحقه في تل أبيب، لينطلق بعدها للإشراف شخصيًا على توسيع نطاق القصف ليشمل قلب دمشق ومحيط القصر الرئاسي فيها، في استعراض للقوة وتحدٍ سافر.

هل يعكس قصف دمشق نظرة إسرائيلية للحكم الجديد في سوريا؟

ترى إسرائيل أن الحكومة السورية قد تجرأت وتجاوزت الخطوط الحمراء التي وضعتها تل أبيب، والتي تتمثل في ضرورة إبقاء الجنوب السوري خاليًا من أي تواجد عسكري أو أسلحة ثقيلة، والاقتصار على وجود قوات الأمن والشرطة والموظفين المدنيين فقط. هذا الأمر دفع إسرائيل إلى معاقبة سوريا، وليس مجرد توجيه رسائل تحذيرية للحكومة الجديدة فيها.

في المقابل، وجدت حكومة نتنياهو في هذا الوضع فرصة ذهبية للاستثمار في إضعاف الحكومة السورية وتقويض صورتها على الصعيدين الداخلي والخارجي، وهو الأمر الذي كانت الضغوط الأميركية تحرمها منه قبل أحداث السويداء.

لا تلتزم إسرائيل بحماية أي طائفة أو أقلية عرقية في سوريا بقدر التزامها باستغلال الفرص المتاحة للاستثمار في الفوضى والأزمات، وذلك بهدف تحقيق مصالحها الآنية وتوفير المزيد من المكتسبات التفاوضية المستقبلية. وضمن هذا الإطار، تدعم إسرائيل دعوة الشيخ الهجري الذي يعلن عداءه الصريح للحكومة السورية، وعدم اعترافه بشرعيتها.

على الرغم من فتح قنوات التفاوض بين سوريا وإسرائيل بدعم أميركي ووساطات إقليمية متعددة، وكل ما تردد عن مراسلات غير مباشرة أو لقاءات مباشرة في باكو وأوسلو، فإن الموقف الحقيقي لإسرائيل من الحكم الجديد في سوريا هو تمامًا الموقف الذي يعبر عنه الشيخ الهجري ويعلنه مرارًا وتكرارًا. وهذا ما يدفع إسرائيل إلى التدخل استجابةً لنداء الشيخ الهجري بالتدخل الخارجي والحماية الدولية، بينما لا تدعم مواقف باقي المرجعيات الدينية في سوريا، سواء المرجعيات التقليدية مثل الشيخ حمود الحناوي والشيخ يوسف جربوع، أو القوى الناشئة في الثورة من القادة والزعامات المحلية، مثل ليث البلعوس ويحيى الحجار وسليمان عبدالباقي.

موقف واشنطن من التصعيد ضد دمشق

يسود الاعتقاد بأن إسرائيل لا تتحرك إلا بالتنسيق الكامل مع الإدارة الأميركية، وقد يتقن الطرفان تبادل الأدوار، ففي الوقت الذي تطلب فيه واشنطن وقف القصف جنوب سوريا، ترد تل أبيب بتصعيد يشمل قصف العاصمة دمشق.

ربما يكون هذا هو أكثر ما تخشاه الحكومة السورية، حيث تعتمد على أن الموقف الأميركي تجاهها يختلف عن الموقف الإسرائيلي، وأن اعتداءات القوات الإسرائيلية على السيادة السورية ومحاولات الاستثمار في الفوضى ومنع الاستقرار لا سبيل إلى مواجهتها إلا بالاعتماد على أن الموقف الأميركي سيكون مختلفًا وسيتدخل. فإذا كانت دمشق قد أخطأت في تقدير المواقف الخارجية عند تخطيطها للتدخل في السويداء، فهي الآن أمام مشكلة عويصة، وعليها إعادة النظر في حساباتها.

في المقابل، من المتوقع أن تتدخل إدارة ترامب لإعادة جميع الأطراف إلى مسار المفاوضات، وإتمام انضمام الجميع إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، لكن هذا لا يعني أنها معنية بالتدخل لمنع إسرائيل من معاقبة الحكومة السورية بشكل لا يؤثر جوهريًا على مبدأ استقرار المنطقة، انطلاقًا من استقرار سوريا ولبنان.

لن يزعج واشنطن أن تستخدم تل أبيب القليل من القصف والتدمير في سبيل تحقيق الكثير من الإلزام والانضباط، بل إن هذا يتماشى مع أحد مبادئ الرئيس ترامب الذي يعبر عنه بشعار: "تحقيق السلام باستخدام القوة"، وهذا يناسب إسرائيل غير المعنية باستقرار الحكم الجديد في دمشق، على عكس باقي حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، الذين يسعون لدعم الرئيس الشرعي وتعزيز استقرار حكومته وتقويتها.

إلا أن واشنطن ستتدخل لوقف تل أبيب عندما ترى أن الضغوط الإسرائيلية باتت تهدد استقرار حكم الرئيس الشرعي في سوريا، ذلك أن استقراره هو الضامن لعدم عودة إيران إلى سوريا، وهو الضامن لإعادة التموضع السوري مع الغرب في خارطة التحالفات الإقليمية والدولية، وهو القادر في سوريا على إنهاء الفوضى و بسط نفوذ الدولة لضمان الأمن والاستقرار بما يتماشى مع مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.

آثار قصف مبنى قيادة الأركان في دمشق ومآلاته

بعيدًا عن الخسائر البشرية والمادية والمعنوية، فإن القصف الإسرائيلي الذي خرج عن المألوف، والذي طال جزءًا من واجهة مبنى قيادة الأركان في دمشق، سيترك بصماته وتداعياته السياسية على طريق الحكومة السورية التي تواجه بالفعل تحديات جمة على كافة المستويات، وخاصة على الصعيد الاقتصادي.

قد تكتفي إسرائيل بما حدث مع عودة الجيش السوري إلى ثكناته بعيدًا عن الجنوب، لكنها بذلك رسمت حدود التدخل الذي قد تقدم عليه في حال تجاوز الخطوط الحمراء التي تفرضها في المنطقة، خاصة أن حكومة نتنياهو تعيش حالة من الغطرسة والتباهي المفرط باستخدام القوة، بعد تدميرها لغزة، والقضاء على حزب الله في لبنان، وادعائها إسقاط نظام الأسد في سوريا، واعتقادها بتحقيق نصر مطلق في حربها على إيران.

من جانب آخر، فإن قصف قيادة الجيش ومحيط القصر الرئاسي في أي دولة هو دليل قاطع وحجة دامغة على أن هذه الدولة بعيدة كل البعد عن الأمن والأمان والسلام والاستقرار، وبالتالي فهي أبعد ما تكون عن جذب الفرص واستقطاب المستثمرين، وهو الأمر الذي يتعارض تمامًا مع ما تصبو إليه الحكومة السورية وتسعى إلى تحقيقه في أسرع وقت ممكن لإنقاذ الاقتصاد وتخفيف معاناة السوريين الذين ضاقوا ذرعًا بسوء الأوضاع المعيشية وتدهور الأوضاع في البلاد.

تحتاج الحكومة السورية إلى رفع العقوبات الأميركية بشكل فعلي وملموس، وأن تبدأ آثار ذلك بالظهور في مختلف القطاعات الاقتصادية والتنموية، وهو الأمر الذي لم يتحقق منه شيء حتى الآن، على الرغم من الوعود الأميركية وإصدار القرارات التنفيذية.

وإن ما تخشاه الحكومة السورية وجميع السوريين هو أن تلقي الأزمة الأخيرة في السويداء وتداعياتها على مسار التفاهمات مع إسرائيل بظلال ثقيلة على مسار رفع العقوبات الأميركية عن سوريا، سواء بالتأخير أو التعطيل أو التردد من الجانب الأميركي.

كذلك فإن موقف إسرائيل وقصفها للعاصمة دمشق بهذا الشكل، قد قلل من قيمة الحسم العسكري الذي انتهت به الأمور في السويداء لصالح الحكومة السورية، بل إنه قد يمهد الطريق لعودة التوترات في المحافظة لاحقًا، فضلًا عن التأثير السلبي على القوى المعارضة للاندماج مع الحكومة السورية في شمال شرق البلاد.

تنظر دمشق إلى تطور الموقف الإسرائيلي بعين الريبة والقلق، فما حدث لن يقتصر تأثيره على تأخر التعافي والاستقرار فحسب، وإنما قد يؤدي إلى تنامي الضغط الإسرائيلي على الولايات المتحدة لتغيير موقفها من الحكم الجديد في دمشق، وبالتالي تتأثر واشنطن وتعيد حساباتها في المنطقة، مما يؤثر سلبًا على حلفائها الداعمين لحكومة الرئيس الشرعي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة